الاثنين، 20 أكتوبر 2014

رواية "المباءة " الجزء الثاني

المؤلفات: رواية "المباءة " الجزء الثاني
لكاتبها محمد عز الدين التازي
-3 عتبة المعمار النصي:
تستند رواية المباءة لمحمد عزالدين التازي إلى معمارية ثلاثية قائمة على التوزيع
التيماتيكي والفصلي على الشكل التالي:
الفصول الضريح السجن الضريح
491-436 436-46 46- الصفحات 9
الشخصيات المركزية السي الهاشمي باإبراهيم السي الهاشمي
قاسم الورداني قاسم الورداني قاسم الورداني
وهكذا نلاحظ أن الرواية ذات معمار ثلاثي دائري مغلق في بنائه الحلزوني، تبتدئ فضائيا
بالضريح وتنتهي إليه عبر فضاء السجن، أي من فضاء الموت إلى نفس الفضاء عبر فضاء
التعذيب والتطهير والتنكيل ومصادرة حقوق الإنسان وكرامته وحريته في إبداء الرأي
والجهر يالحق أو الصدع به.
-4 عتبة المقتبسات:
يستهل الكاتب فصول الرواية أو أقسامها الثلاثة الكبرى بمقتبسات توضيحية. ففي بداية
الفصل الأول نجد مقتبسا صوفيا لابن ضربان الشرياقي يتحدث فيه عن الإنسان العارف
والفقيه المجذوب والرجل المتنور في عصرنا. فالعارف في زمن المباءة هو رجل الوجدان
والحال وصاحب المقامات على الرغم من عماه أو سكوته. فالمعرفة اللدنية العرفانية لاتتم
بالمحسوس المادي ولا بالعقل، بل بالقلب والمشاهدة الروحية. وبعد ذلك، يتحدث الكاتب عن
الكأس الصوفية وانتقال قاسم من عالم الرؤية والحس إلى عالم الغياب والأحوال والمقامات
الوجدانية. ويعقب هذا المقتبس الصوفي مقتبس فلسفي لنتشه فيلسوف القوة والوجود
والرفض الذي أقر فيه بأن الإنسان المتفوق هو الذي ابتلاه الجنون والاشتعال الوجداني.
وهذا ما أثبته باسكال عندما أكد عقلانية المجنون باعتباره أكثر الناس عقلا.
ويستهل الكاتب الفصل الثاني بمقتبس لنتشه، وهو مأخوذ من كتابه"هكذا تكلم زرادشت"
طالبا فيه الرفاق أن يقتنعوا بمبادئهم ومواقفهم ويصلون إليها عن طريق ممارساتهم
الإبداعية وتجاربهم الشخصية دون أن يكونوا نسخا مستنسخة أو عقولا مطبوعة بمواقف
الآخرين.
وينهي الكاتب الرواية بمقتبس فلسفي لنتشه يضعه في مستهل الفصل الأخير " الضريح"

ليتحدث بلسان الشعب التزاما وتعبيرا عن قضاياهم في مواجهة تأنق التبرجز ونفاق الأسياد
وكذبهم وزيفهم.
وهكذا نجد الكاتب يمزج الخطاب الفلسفي بالخطاب الصوفي أو ماهو وجداني بماهو
عقلاني على مستوى المقتبسات النصية استشهادا وتوضيحا وبيانا وتوكيدا وإحالة وترميزا
علاوة على جمعه بين خطاب الروح اللدنية وخطاب القوة الوجودية. وأصبحت ظاهرة
المقتبسات النصية من سمات الرواية الحديثة، وبدأت تظهر في كثير من النصوص الروائية
الجديدة والمعاصرة ،ولاسيما روايات بنسالم حميش في رائعته" مجنون الحكم".
-5 المتن الحكائي أو القصصي:
تصور الرواية مباءة الفضاء والأشخاص، وتركز على قاسم الورداني الذي اشتغل مدة سبع
عشرة سنة مديرا للسجن المدني بفاس، بعد أن خاض حروبا في الهند الصينية دفاعا عن
الحقد الفرنسي وعلٓمه الإمبريالي. وقاسم معيل أسرة تتكون من زوجة اسمها رقية وابنة
تسمى نعيمة وولد اسمه منير. يسكن داخل السجن بجوار"باابرهيم" والمقتصد الذي كان
ينهش عظام المسجونين حيث يأخذ طعامهم ويدخله إلى منزله دون أن يتدخل المدير أو أن
يقف في وجهه باعتباره رئيسه الأعلى.
هذا، ولقد كره منير وظيفة أبيه لأنه كان ينظر إليه على أنه سجان الآدميين يصادر حقوقهم
ويقوم بتعذيبهم دون رحمة أو رأفة. كما كان منير ينفر من الفضاء الموبوء المميت الذي
كان يوجد فيه منزلهم وسط السجن باعتباره فضاء عدائيا يثير اشمئزاز الآخرين
وامتعاضهم منه.
وكانت علاقة منير بأبيه علاقة صراع وجدال وتناقض حول الكثير من القضايا أهمها:
قضية النضال والسعي الجاد إلى تغيير الوطن الموبوء على جميع الأصعدة لتحقيق العدالة
الاجتماعية، وتوفير الأمن والرخاء والسعادة المطلوبة والدفاع عن حريات الإنسان وحقوقه
الطبيعية والثقافية المشروعة التي أقرها الإسلام ونصت عليها مواثيق حقوق الإنسان الدولية
والعالمية. بيد أن أباه كان يعارضه في كثير من النقط ويغضب أشد الغضب عندما تثار
المسائل السياسية ولاسيما مهنته التي كانت تزعج منير وتنغص عليه حياته. لذا كان منير
يحاربه ويجادله ويهدده بترك المنزل والانضمام إلى الرفاق ومناضلي الكلية.
ولم تكن المفاجأة مأساة إلا عندما عاد منير بعد غيبة طويلة. رجع وجسمه منهوك، وجسده
ملوث بتعذيب آلي لايتصور. لقد عاقبوه وصادروا حريته وشوهوا جثته حتى أصبحت
فخذاه لاتقدران على الحركة والمشي. في جسده حروق وتشوهات من شدة ألم الاستنطاق
والتعذيب اللاإنساني.
ولم يرض الأب بهذه الدراما الوحشية الفظيعة. لذلك ذهب إلى الرباط للتنديد بمصادرة
حقوق الإنسان وإعدام الأطفال وتعذيب الأطفال والتنكيل بالطلبة والوطنيين الغيورين على
مستقبل بلادهم. وعاد من الرباط وقد أصابته لوثة جنونية وهذيان أفقد رشده وعقله. وأثرت

هذه اللوثة على مصير الأسرة إذ أبعدت من مقرها داخل السجن، لتنتقل بعد ذلك إلى دار
قديمة حيث خال رقية زوجة قاسم.
وقد كانت نهاية الأب فاجعة وكارثة جنونية حلت بهذه الأسرة الفقيرة المعوزة. وانسلخ قاسم
من هذا العالم الموبوء، وارتحل إلى الضريح حيث الزاوية لينضم إلى عالم الموتى
والمجانين المقيدين بالسلاسل لينقش شواهد الشرفاء والراحلين إلى عالم الفناء والفضاء
الأخروي.
وأصبح لقاسم عالم آخر عالم الروح والتصوف والأحوال، يعيش مع الأرقام والقطط
والموتى يناجي الذات المعشوقة وحروف الحي الأكبر، وفضاء الولاية المقدسة مترددا بين
قيم الطهارة والدنس أو بين سمات العالم الموبوء وعالم الجذبة والأوراد وتراتيل الصوفية
العارفين بالله.
وهكذا يرحل قاسم في الأخير من عالم المادة إلى عالم الخلوة والحضرة الجنونية والمغيب
الرباني. ومن ثم، يسترجع قاسم حريته وإنسانيته بعد تخلصه من مباءة الأوحال والأدران
والأمراض المادية، لينتقل إلى عالم البركة والأولياء الصالحين وفضاء الأرواح وعشق
الحروف وبياض الرخام وصفاء الوجدان وطهارة الأعماق.
-6 الفضاء الروائي:
تستند الرواية إلى عدة فضاءات منغلقة ومنفتحة، بعضها عدائي والأخرى حميمية دون أن
ننسى الأمكنة المقدسة والأفضية المدنسة الموبوءة.
هذا ، وتنطلق حبكة الرواية من فضاء فاس إلى فضاء الرباط- على غرار لعبة النسيان
لمحمد برادة – باعتبارهما فضاءين عامين، لتعود شخصية الرواية المحورية الديناميكية
باللوثة الجنونية إلى فضاء فاس مرة أخرى. وتندغم في هذين الفضاءين أمكنة خاصة
كالفنادق والشوارع والحانات والمقاهي والقبور والأضرحة والزوايا، أي فضاءات العتبة
والروح والموت.
وتحوي الرواية أمكنة عسكرية ومدنية وإدارية ودينية وعائلية وتجارية وأسطورية
وفانطاستيكية قائمة على الغرابة والتعجيب. وتبقى الزاوية بضريحها المكان الروحي البديل
للفضاء المادي الموبوء بالقهر والتسلط والقمع والفساد ومصادرة حقوق الإنسان.
وتشبه هذه الرواية في أفضيتها رواية نجيب محفوظ" اللص والكلاب"، حيث ينتقل سعيد
مهران الشخصية الرئيسة في الرواية من عالم السجن والأسر والعذاب إلى فضاء أرحب
هو فضاء الجذبة والمشيخة الصوفية والطهارة اللدنية الروحية. وهذا مافعله قاسم الذي
تخلص من الفضاء العدائي الموبوء والمغلق إلى فضاء أكثر رحابة وانفتاحا على السماء
والعرفان الوجداني والأوراد الصوفية)ختانة الأولاد- التبرك- إطعام القطط - إبراء
المجانين- محاسبة الذات وتطهيرها- نقش شواهد القبور(. ويعاشر قاسم مقدم الزاوية السي
الهاشمي الذي يسكن بيتا يجاور المقابر مع أسرته وبناته. وكانت بناته يلبسن المريلات أثناء

ذهابهن إلى المدرسة، بينما يفترش قاسم غرفة منعزلة بعيدا عن أسرته وفاس الموبوءة بين
أربعة أموات رفضا للمعاملة اللاإنسانية التي يعامل بها الإنسان البريء في عالم الاستبداد
والسلطة المطلقة القائمة على الإلزام والإكراه والقهر والتسلطن الجائر. ولافرق بين السجن
والضريح- كما يقول سعيد يقطين- " إنهما فضاءان منغلقان، ومعا يشكلان مؤسسة. للأولى
طابع سياسي، وللثانية بعد ديني. وهما معا يضمان فئة"خارجة" عن المجتمع أو الجماعة،
وينغلقان عليهما. يختلف الدال؛ لكن المدلول واحد، لافرق بين السجن الذي ينغلق فيه على
الخارجين على القانون الاجتماعي) الثوار(، وبين الضريح الذي ينغلق فيه على الخارجين
على الشعور الجماعي) المجانين(. ويمارس المجتمع عليهم إلا بعد أن يعود إليهم رشدهم )
المجانين(، أو يتراجعوا عن غيهم) الثوار(، ويكلف بهم من يقوم بحراستهم وتعذيبهم". 6
وما هروب قاسم من الواقع الموبوء ومن فضاء السجن إلا تعبير عن الرفض المطلق لماهو
سائد من القيم والسلوكيات والأعراف والعادات المدنسة، والتنديد كذلك بالقمع والظلم
والجبروت وانعدام الحريات والعدالة الاجتماعية ودولة حقوق الإنسان.
إنه سخط وتمرد على قوانين الأسياد والأقوياء وشرائعهم المزيفة وادعاءاتهم الباطلة.
ويعكس هروب قاسم من الواقع المنحط إلى الزاوية التحول الكبير لديه على" مستوى
شخصيته ورؤيته للأشياء. إنه يهرب من الذاكرة، ومن الأسرة، ومن المجتمع، في الضريح
يخلق له عالما جديدا مختلفا كل الاختلاف عن عالم السجن. يستبدل بالإزميل الذي يحفر به
على شواهد القبور مفتاح باب الزنزانة. ومن ممارسة الواجب، ينتقل إلى ممارسة الاختيار،
في الواجب ركون ودعة واستسلام، وفي الاختيار بحث وإبداع وجري وراء الخلاص". 4
ويعد الضريح فضاء للتحرر من إسار الجسد وقيود السجن والفضاء الموبوء المطعون في
شكله وجماله والارتحال على فضاء الإبداع والكتابة والرسم ومعانقة الحي الأكبر.
أما كما مارس فيه قاسم حياته مع أسرته فهو " فضاء يعقلن فيه قاسم رؤيته للأشياء وطريقة
حواره مع أبنائه. لكن الضريح فضاء للتحرر والفعل والإبداع. فيه " يعتقل" قاسم نفسه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق